يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل دولتهم في مصر والشام بأمد بعيد؛ إذ استخدمهم الخلفاء العباسيون الأوائل، واعتمدوا عليهم في توطيد دولتهم، واستعانوا بهم في الجيش والإدارة، ولعلَّ الخليفة المأمون العباسي (198-218هـ= 813-833م) هو أول من استعان بهم، ثم استكثر منهم الخليفة المعتصم (218-227هـ= 833-843م)، وشكّل فرقا عسكرية من الأتراك، وكان يُعنى بشرائهم صغارا ويستجلبهم من سمرقند وفرغانة والسند، وغيرها من أقاليم ما وراء النهر، حتى بلغ عددهم بضعة عشر ألفا، فلمّا ضاقت بهم بغداد، وزاحموا الناس في الطرقات نقلهم المعتصم معه إلى "سامراء" عاصمته الجديدة التي بناها لتكون حاضرة لملكه.

ولم يلبث أن شاع استخدام المماليك في كثير من أجزاء العالم الإسلامي، وكانت مصر ممن انتهجت هذا النهج، فأكثر "أحمد بن طولون" الذي تولَّى حكم مصر سنة 254هـ = 868م من شراء المماليك الديالمة، سكان بحر قزوين حتى بلغ عددهم أكثر من 24 ألفا، والتزم الإخشيديون سُنة أسلافهم الطولونيين في جلب المماليك الأتراك والاستعانة بهم في الجيش.

وفي الهند قامت لهم دولة قبل أن تقوم في مصر بعد أن نجح "قطب الدين أيبك" في إنشاء دولة عُرفت باسم دولة "الملوك المماليك"، وظلَّت دولتهم قائمة مدة 84 عاما، بدأت عقب سقوط الدولة الغورية سنة 602هـ = 689م.

الصالح أيوب والمماليك

عُني الصالح أيوب (638-647هـ = 1240 – 1249م) منذ أن تولّى حكم مصر بالإكثار من شراء المماليك الأتراك بعد أن ساندوه في توطيد سلطانه، حتى صار معظم جيشه منهم، وبنى لهم قلعة خاصة بجزيرة "الروضة" في وسط النيل وأسكنهم بها، وجعلها مقرا لحكمه، وعُرف هؤلاء المماليك الجدد باسم المماليك "البحرية الصالحية".

وقد برز هؤلاء المماليك البحرية وتعاظم شأنهم في خضم أحداث الحملة الصليبية السابعة التي مُنيت بهزيمة بالغة سنة 648هـ = 1250م، وانتهت بأسر الملك "لويس التاسع" قائد الحملة في المنصورة، وتبدد قواته بين القتل والأسر.

نهاية الدولة الأيوبية

تُوفي الصالح أيوب في أثناء المعركة وخلفه ابنه توران شاه في حكم مصر، لكنه لم يحسن معاملة المماليك البحرية، الذين كان لهم الفضل الأكبر في تحقيق النصر، وحسدهم على مكانتهم التي بلغوها بفضل شجاعتهم وقوة بأسهم، وخشي من نفوذهم فأعرض عنهم، وأوجس منهم خيفة وأضمر لهم السوء، غير أنه لخفته ولهوجته كان يجاهر بذلك عند سكره بالليل فينفلت لسانه بما يضمره قلبه من قتلهم والتخلص منهم.

يُضاف إلى ذلك سوء تدبيره وفساد سياسته بإبعاده كبار رجال دولته من الأمراء وأهل الحل والعقد، وتقريبه رجاله وحاشيته وإغداقه عليهم بالأموال والإقطاعات ولم يكن أمام المماليك سوى التخلص من توران شاه قبل أن يتخلص هو منهم، فنجحوا في قتله في فارسكور في صباح يوم الإثنين الموافق (28 من المحرم 648هـ = 2من مايو 1250م)، وبمقلته انتهت الدولة الأيوبية في مصر وبدأ عصر جديد.

قيام دولة المماليك

وجد المماليك أنفسهم أمام وضع جديد لم يعهدوه من قبل، فهم اليوم أصحاب الكلمة النافذة والتأثير البالغ، ولم يعودوا أداة في أيدي من يستخدمهم لمصلحته وتحقيق هدفه، وعليهم أن يختاروا من بينهم سلطانا جديدا للبلاد، فاتفقت كلمتهم على اختيار أرملة أستاذهم "شجرة الدر" سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرا، وبايعوها بالسلطنة في (2 من صفر 648هـ = 5 مايو 1250م).

غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شئون الدولة، فلقيت معارضة شديدة في داخل البلاد وخارجها، وثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه وجلوس شجرة الدر على سدة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تُقر صنيع المماليك، فكتب الخليفة إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نُسيِّر إليكم رجلا".

تنازل شجرة الدر وولاية عز الدين أيبك

لم تجد شجرة الدر بُدا من أن تتنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب بالملك المعز، وكانت المدة التي قضتها شجرة الدر على عرش البلاد 80 يوما، ولم يكن تولِّيها الحكم ناتجا عن موافقة شعبية أو اختيار من الخلافة العباسية، وإنما كان وليد الظروف التى أحاطت بمصر في ذلك الوقت.

تولَّى الملك المعز عرش البلاد، ولم تهدأ أصوات المعارضين لانفراد المماليك بالحكم، بل زاد حدة، وكان على السلطان الجديد للدولة الوليدة أن يواجه بحزم خطر الأيوبيين في الشام وتهديداتهم، وكانوا قد اجتمعوا تحت زعامة "الناصر يوسف" صاحب حلب ودمشق لاسترداد مصر من المماليك، باعتبارهم مغتصبين حق الأيوبيين في حكم مصر، وزحفوا على مصر فالتقى معهم أيبك بقواته في معركة بالقرب من الصالحية في (10 من ذي القعدة سنة 648هـ = 2 من فبراير 1251م)، وانتهت بانتصاره وفرار الناصر يوسف ورجاله إلى الشام.

وقد دفع هذا النصر الملك المعز إلى الزحف إلى الشام للقضاء على المعارضة الأيوبية، غير أن تدخل الخليفة المعتصم العباسي وضع حدًّا للنزاع بين الطرفين؛ فتم الصلح بينهما سنة 651هـ = 1253م على أن تكون مصر والجزء الجنوبي من فلسطين بما في ذلك غزة وبيت المقدس وبلاد الساحل للمعز أيبك، على حين تظل البلاد الشامية في أيدى الأيوبيين، وهكذا انتهت العقبة الأولى في تأسيس الدولة المملوكية الناشئة بإيقاف النزاع والصراع مع ملوك البيت الأيوبي.

عقبات في طريق قيام دولة المماليك

ولم يكد السلطان أيبك يتخلص من هذه العقبة حتى واجهته عدة مشكلات داخلية، بدأت بقيام الأعراب بثورة شعبية في الصعيد والشرقية تحت زعامة "حصن الدين ثعلب"، هددت البلاد؛ فاضطر السلطان إلى أن يرسل حملة عسكرية بقيادة "فارس الدين أقطاي" لقمع هذه الثورة في مهدها؛ فنجح في القضاء عليها قبل أن يستفحل خطرها.

أما العقبة الثانية التي واجهت أيبك في الداخل فهي ازدياد نفوذ المماليك البحرية بزعامة "فارس الدين أقطاي"، خاصة بعد نجاحهم في تحقيق انتصارات داخلية وخارجية، فهدد نفوذهم مكانة السلطان، واشتد خطرهم حتى أصبح يهدد أمن الناس وسلامتهم، وعجز السلطان عن مواجهتهم والتصدي لاستخفافهم به؛ فكان "أقطاي" لا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظمية كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان في مجلسه فلا يسميه إلا أيبكا، وتطلعت نفسه نحو السلطنة، ولقّبه زملاؤه بالملك الجواد.

استشعر السلطان الخطر وأحس بالخوف من ازدياد نفوذ "أقطاي"؛ فعزم على التخلص منه فاستدعاه إلى القلعه بحجة استشارته في أمر من أمور الدولة، وهناك تخلص منه بالقتل في (3 من شعبان 652هـ = 18 من سبتمبر 1254م)، وألقى هذا الحادث الرعب في قلوب كبار المماليك البحرية فسارعوا بالهرب إلى خارج البلاد، والتجأ بعضهم إلى ملوك البيت الأيوبي في الشام، ولجأ بعضهم الآخر إلى دولة سلاجقة الروم، وتعقب أيبك من بقي منهم في مصر فقبض عليهم، وكتب إلى الملوك الذين لجأ إليهم المماليك يحذرهم منهم ومن غدرهم.

نهاية السلطان أيبك

أسلمت البلاد قيادها للمعز، وتخلص من القوى المناوئة له، وكان من المنتظر أن تنعم البلاد بالهدوء بعد الفوضى والقتال، وينعم هو بزعامة بلد له شأن، ولكن ذلك لم يدم، ودخل في صراع مع زوجته شجرة الدر زاد من ضراوته عزمه على الزواج من إحدى بنات البيت الأيوبي، وبدأ يفكر في الخلاص منها، غير أنها كانت أسبق منه، فدبرت مؤامرة لقتله في (24 من ربيع الأول 655هـ = 11 من إبريل 1257م)، ثم لم تلبث هي الأخرى أن قُتلت بعده بأيام قليلة.

وبعد مقتله تعصب المماليك المعزية لابن سيدهم المدعو "نور الدين علي" بن أيبك، وكان في الخامسة عشرة من عمره، وأقاموه سلطانا على البلاد، ولمّا تعرض الشرق الإسلامي لخطر المغول الذي اجتاح الشام وأصبحت مصر على مقربة من هذا الخطر، قام "قطز" نائب السلطنة بعزل السلطان الصغير، وتولى الحكم لمواجهة الخطر المغولى الداهم، وخرج إلى ملاقاة المغول في "عين جالوت" وحقق نصار تاريخيا في (26 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260م)، وطرد المغول من المنطقة، وضمَّ الشام إلى سلطان المماليك الذين أصبحوا سادة الموقف، ومن بيدهم مقاليد الأمور في مصر والشام.